الوشم عند نساء قبيلة عرب الصقر*
اذا سنحت لك الفرصة في يوم وقابلت احدى نساء قبيلة الصقر فان أول ما سيلفت نظرك هو تلك الوشوم التي تغطي الوجه والجبين والخدين. وما سيلفت نظرك ايضا روعة هذه الوشوم على بساطتها. قد يقول قائل ما, وما الغريب في ان أرى سيدة عجوز بوشم؟؟ لكن الواقع ليس كذلك خصوصا عندما تدرك ان هذه الوشوم تعود للعام 1948 وما قبل. بالاضافة الى ذلك من الجدير التنويه الى ان الوشم في الحضارة العربية الاسلامية محرم شرعا. مما يثير السؤال التالي : هل كان افراد هذه القبيلة غير متدينين وبالتالي كانت الوشوم؟ ام ان الدافع وراء مثل هذه الوشوم له قصة اخرى؟ علما ان نساء وفتيات هذه القبيلة لم يعدن يتبعن هذه العادة في ايامنا هذه. المثير حول هذه الوشوم ايضا طبيعة الحياة الاجتماعية انذاك ونمط العيش القبلي الذي اثر بشكل كبير في نشؤ مثل هذا التقليد بين نسائه. فما هو نمط الحياة الذي كان سائدا انذاك؟ وما هو خليفته الاجتماعية؟ ولماذا توقفت نساء هذه القبيلة عن ممارسة هذا التقليد في العصر الحاضر.
لمعرفة اسباب اختفاء تقليد تميزت به احدى القبائل العربية لعصور طويلة, تقليد كن نساء هذه القبيلة يتفاخرن به, وانا ابن هذه القبيلة فكرت في اجراء بعض المقابلات مع بعض كبار السن القلائل الذين لا يزالون على قيد الحياة. وفي الوقت الذي كنت افكر فيه في ترتيب المقابلات كنت اخشى ان يرفض كبار السن من اتلرجال والنساء الحديث عن هذا الموضوع, او ان يكونوا قد هرموا بما فيه الكفاية للحديث أو ان تسعفهم الذاكرة. ذلك ان هذا التقليد قد توقف منذ زمن بعيد نسبيا. لكن الحقيقة ان رجال ونساء عرب الصقر كانوا من الكرم العربي الاصيل بحيث رحبوا بالموضوع كما وانهم كانوا من الذاكرة ما يثير الحيرة لقوتها وحضورها.
والسيدة الاولى التي قابلتها كانت تملأ رقعة وجهها وجبينها بالوشوم الجميلة ببساطتها. وعندما سألتها عنها قالت " كنا نسميه الغوى وهو تقليد لبنات ونساء القبيلة في وقت قديم"
"فالغوى[1]" كما اشارت تلك السيدة الى انه عملية متكاملة من التجميل تشمل عمل الوشوم او " الدق[2]" والتخضب بالحناء ووضع "الزميمة[3]". وهذه العملية كانت من الاهمية بمكان بحيث تقوم غالبية فتيات القبيلة بها وذلك لجذب انتباه شباب القبيلة ورجالها
الغوى كما اسلفت سابقا يقصد به حسب الحاجة ام عمر"الوشم بشكل رئيس مصحوب برسم الحنا و وضع الزميمة" وكن الفتيات يحرصن عليه كواحد من اهم وسائل جذب شبان القبيلة ولفت انتباههم, وهو يتنوع في تقنياته كما تقول الحاجة ام منير اذ قد يشمل " الدق, الحنا, الترديع, و وضع الزميمة " اما الهدف منه فهو واضح من خلال التسمية, اذ ان ( الغوى ) هو من الغواية اي غواية الرجال وتصيدهم و لفت انتباههم. اذا فقد كانت وسيلة التجمل هذه هي الطريق الى قلوب رجال القبيلة وشبابها. كانت هذه طريقهن لقلب شجعان القبيلة وفرسانها. طريقة تتخذها الفتاة لدفع شباب القبيلة للتفكير فيها كشريكة حياة من خلال اضافة جمال الى جمالها العربي الاصيل.
وعندما سألت سيدة أخرى عن وجهة نظر الدين فيما كن يفعلن انذاك فقالت : " في ذلك الوقت لم نكن نعرف كثيرا عن المحرمات الدينية". وقد سألتها ايضا عن سبب توقف الفتيات في يومنا الحاضر عن عمل مثل هذه الوشوم, فأجابت :" ان فتيات اليوم اكثر وعيا وثقافة. وهناك اليوم وسائل مختلفة للتجمل والزينة اكثر عصرية, كما انهن بتن يعرفن ان الوشم "حرام" في الاسلام" .
الوشوم التي اعتدن نساء قبيلة الصقر وشمها تميزت بالبساطة وعدم التعقيد. كما انها تختلف كثيرا في شكلها عن ما هو معروف في عصرنا الحديث. ولكل وشم اسمه الخاص. في ذلك الوقت كن (النوريات) يمتهن عمل الوشوم ومختلف اشكال الغوى, وكن يعرفن باسم "الدقاقة[4]" فقد كن ينتقلن من قبيلة لاخرى مناديات "دقاقة.. دقاقة " واذا ما سمعت فتيات القبيلة بذلك سارعن بمناداتها لعمل الوشوم المختلفة والمتعددة في انحاء مختلفة من الجسم. فبعد نقاش صغير تقرر الفتاة الوشم الذي تريد ومكانه من جسمها. واشهر انواع الوشوم على الاطلاق بين فتيات هذه القبيلة المعروف باسم ( السيال[5] ) فقد تضع الفتاة سيالا واحدا او اثنين او ثلاثة الى جانب بعضهم البعض. وهناك نوع اخر من الوشوم على منطقة الذقن يعرف باسم
( شوارب الجندي[6]) و بعض الفتيات كن يفضلن ما يعرف بوشم ( الترديع[7] ) اذ يكون على شكل نقطة على كل من الخدين و نقطة على رأس الانف الى جانب هلال بين العينين. والملفت للنظر ان فتيات هذه القبيلة كن
يضعن الوشوم في اماكن حساسة من اجسادهن؛ مثل بطة القدم اذ كان البعض منهن يشمن خلخالا على اقدمهن وقسم اخر يشم وشوم مختلفة على صدورهن كأن يشمن شجرة مثلا تغطي القسم الاكبر من صدورهن اذا لم تغطيه كله.
اذا اختارت الفتاة وشما محددا في مكان محدد تقوم ( الدقاقة) برسمه بداية باستخدام الكحل ومن ثم تقوم بتنفيذ الوشم باستخدام نوع خاص من الابر تغمسه في حبر خاص ازرق اللون ومن ثم تقوم بوخز الجسم بالابرة المبللة بالحبر حتى يختلط الدم والحبر في ثنايا الجلد ويترك لمدة زمنية قصيرة حتى يقشر الجلد ويكتسب لون الوشم الجديد. وبعد نهاية عملية الوشم تتتناول الفتيات فنجانا من القهوة العربية وتعطي الفتاة التي وشمت الدقاقة شيئا على سبيل المكافأة مثل قطعة قماش مستخدمة او ثوبا قديما او القليل من الطعام او اي شيء اخر.
كانت فتيات القبيلة في ذلك الوقت يتباهين بوشومهن بشكل كبير جدا, و الفتاة التي لا تحمل اي وشم تعيٌر بعدم الجمال, اذ كانت الفتيات تعتبر ان الوشم يضيف اليهن جمالا الى جمالهن العربي. كما وانهن كن يتباهين بقوتهن وجلدهن الى جانب الجمال وذلك ان الوشم يحتاج الى القوة والصبر لتحمل الم الوشم فكما يقلن في المثل المنتشر بينهن " الغوى وده قوى " اي صبر وقوة تحمل للالم.
اما رجال هذه القبيلة فلم تنتشر بينهم هذه العادة بشكل كبير فقد كانوا يستخدمون الوشم بشكل قليل جدا, وفي المرات التي كانوا يشمون فيها كانوا يستخدموا وشوم تدل على القوة والرجولة مثل وشم سيفين او مقص في اغلب الاحيان وبعض الاحيان يشموا ( دراعية[8] )او سلسلة او اسوارة كما كانوا يسموها. اما ما كان منتشرا بين الرجال هو ( الصبرة[9] ) ولذلك تجد اذرع الرجال ملئى بكيات النار التي تدل على شدة العزم والقوة. ولا تخلو اجساد بعض الرجال من بعض الوشوم الاخرى مثل حبة على الخد او راس الانف من باب التجمل لكن بشكل عام كانوا يكوون سواعدهم بالنار لتدليل على الرجولة اكثر من التجمل. وقد اشار احد رجال قبيلة الصقر انهم كانوا احيانا يستخدموا هذا النوع من الوشم لعلاج بعض الام اليد.
بعد النكبة الفلسطينية عام 1948, هجّر افراد قبيلة الصقر مثل كثيرون من ابناء وطنهم فلسطين الى دول الجوار الفلسطيني وبشكل رئيس الاردن. حيث عاشوا في مخيمات للاجئين الفلسطينين التي اقامتها هيئة الامم المتحدة لاغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينين. وبذلك تغير نمط حياتهم بداية من بدو رحّل يعشقون الحرية الى مساجين خيام الاغاثة في بيئة محصورة ومحيط حدوده الخيمة الاخيرة في المخيم. تدريجيا لجأ معظمهم للزراعة وتحولوا الى حياة القرى ومنهم من انتقل للعيش في المدن الكبرى لاحقا. كان للتهجير الذي لحق بهم على يد العصابات الصهيونية المسلحة انذاك اكبر الاثر في ضياع هويتهم وتغيير نمط حياتهم. فكان من نتائج التهجير ان تغير نمط حياة هذه القبيلة من بدوي الى زراعي ومن ثم الى نمط مدني حضري فقدوا معه الكثير من تقاليدهم التي توارثوها لمئات من السنين.
* هي احدى القبائل العربية التي كانت تسكن في مدينة بيسان ومحيطها في شمال فلسطين وقد تم تهجيرها من اراضيها في نكبة العام 1948م على يد العصابات الصهيونية
[1] هو الاسم الذي كانت تطلقه نساء قبيلة الصقر على عملية التجمل كمت سنرى لاحقا" والكلمة بلهجة القبيلة"
[2] هي الكلمة المرادفة لكلمة "وشم" في لهجة قبيلة الصقر
[3] حلقة صغيرة كالخاتم توضع في الانف مصنوعة من الذهب او الفضة
[4] هو المسمى الذي كان يطلق المرأة من " النور " التي تمتهن عمل الوشوم حسب لهجة قبيلة الصقر
[5] هو احد انواع الوشوم ويكون على شكل خط منقط او متصل يمتد من الشفة السفلى حتى اسفل نقطة في الذقن
[6] احد انواع الوشوم وهو يغطي كل الذقن واسفل الشفة السفلى حتى اطراف الشفتين
[7] نوع اخر من انواع الوشم عند نساء قبيلة الصقر
[8] هي احد انواع الوشم الخاصة بالرجال وتكون على شكل درع يوضع على الصدر في وقت الحرب للوقاية من ضربات السيف او الرمح او السهم
[9] يقصد بها كي الذراع بالنار وذلك لتكزن اقوى عزما وادق رميا للرصاص
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment